الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهو كما تقول: لا تسأل عما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم.وقيل: أي وكلّ أمر مستقرّ يوم يدعو الداعي.وقرأ ابن كثير {نُكْرٍ} بإسكان الكاف، وضمها الباقون وهما لغتان كعُسْر وعُسُر وشُغْل وشُغُل، ومعناه الأمر الفظيع العظيم وهو يوم القيامة.والداعي هو إسرافيل عليه السلام.وقد روي عن مجاهد وقتادة أنهما قرآ {إِلَى شَيْءٍ نُكِرَ} بكسر الكاف وفتح الراء على الفعل المجهول.{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} الخشوع في البصر الخضوع والذلة، وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن أثر العزّ والذّل يتبين في ناظر الإنسان؛ قال الله تعالى: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات: 9] وقال تعالى: {خَاشِعِينَ مِنَ الذل يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] ويقال: خَشَع واختشع إذا ذلَّ.وخَشَع ببصره أي غضّه.وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو {خَاشِعًا} بالألف ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد، نحو: {خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ} والتأنيث نحو: {خاشعة أبصارهم} [القلم: 43] ويجوز الجمع نحو: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} قال:
و {خُشَّعًا} جمع خاشع والنصب فيه على الحال من الهاء والميم في {عَنْهُمْ} فيقبح الوقف على هذا التقدير على {عَنْهُمْ}.ويجوز أن يكون حالًا من المضمر في {يَخْرُجُونَ} فيوقف على {عَنْهُمْ}.وقرئ {خُشَّعٌ أَبْصَارُهُمْ} على الابتداء والخبر، ومحل الجملة النصب على الحال، كقوله: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} أي القبور واحدها جدث.{كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع}.وقال في موضع آخر: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} [القلرعة: 4] فهما صفتان في وقتين مختلفين؛ أحدهما عند الخروج من القبور، يخرجون فزِعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض؛ فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها (الثاني) فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر؛ لأن الجراد له جهة يقصدها.و {مُهْطِعِينَ} معناه مسرعين؛ قاله أبو عبيدة.ومنه قول الشاعر: الضحاك: مقبلين.قتادة: عامدين.ابن عباس: ناظرين.عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت.والمعنى متقارب.يقال: هَطَع الرجلُ يَهْطَعُ هُطُوعًا إذا أقبل على الشيء ببصره لا يقلع عنه؛ وأهطع إذا مدّ عنقه وصوّب رأسه.قال الشاعر: وبعير مُهْطِع: في عنقه تصويبٌ خِلْقةً.وأهطع في عَدْوه أي أسرع.{يَقول الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} يعني يوم القيامة لما ينالهم فيه من الشدّة. اهـ. .قال الألوسي: {اقتربت الساعة} أي قربت جدًا {وانشق القمر} انفصل بعضه عن بعض وصار فرقتين وذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بنحو خمس سنين فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوه عليه الصلاة والسلام أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما، وخبر أبي نعيم من طريق الضحاك عن ابن عباس أن أحبار اليهود سألوا آية فأراهم الله تعالى القمر قد انشق لا يعوّل عليه، وفي (الصحيحين) وغيرهما من حديث ابن مسعود انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة على الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» ومن حديثه أيضًا انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقال رجل: انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فأخبروهم بذلك رواه أبو داود والطيالسي، وفي رواية البيهقي فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا: رأيناه فأنزل الله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر}.وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس من وجه ضعيف قال: اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة. وأبو جهل بن هشام. والعاص بن وائل. والعاص بن هشام. والأسود بن عبد يغوث. والأسود بن المطلب. وربيعة بن الأسود. والنضر بن الحرث فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فشق لنا القمر فرقتين نصفًا على أبي قبيس ونصفًا على قينقاع فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إن فعلت تؤمنوا»؟ قالوا: نعم وكانت ليلى بدر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثل نصفًا على أبي قبيس ونصفًا على قينقاع ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم «اشهدوا».والأحاديث الصحيحة في الانشقاق كثيرة، واختلف في تواتره فقيل: هو غير متواتر، وفي شرح المواقف الشريفي أنه متواتر وهو الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب: الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر وهو الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب: الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن مروى في (الصحيحين) وغيرهما من طرق شتى بحيث لا يمتري في تواتره انتهى باختصار، وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم علي كرم الله تعالى وجهه وأنس وابن مسعود وابن عباس وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم، نعم إن منهم من لم يحضر ذلك كابن عباس فإنه لم يكن مولودًا إذ ذاك وكأنس فإنه كان ابن أربع أو خمس بالمدينة، وهذا لا يطعن في صحة الخبر كما لا يخفى، ووقع في رواية البخاري وغيره عن ابن مسعود كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر ولا يعارض ما صح عن أنس أن ذلك كان بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة والسلام كان ليلتئذٍ بمكة، فالمراد أن الانشقاق كان والنبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك مقيم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة، ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي ما هو نص في وقوع الانشقاق مرتين، وظاهر في أنه مجمع على وقوعه كذلك حيث قال: وانشق مرتين بالإجماع، وكأن مستند الأول ما أخرجه عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقًا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، وأما الإجماع فغير مسلم، وفي المواهب قال الحافظ ابن حجر: أظن أن قوله: بالإجماع يتعلق بانشق لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولعل قائل مرتين أراد فرقتين، وهذا الذي لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات انتهى، ولا يخفى أن هذا التأويل مع بعده لا يتسنى في خبر ابن مسعود المذكور آنفًا لمكان شقتين وهي بمعنى فرقتين ومرتين معًا، والذي عندي في تأويل ذلك أن مرتين في كلام ابن مسعود قيد للرؤية وتعددها لا يقتضي تعدد الانشقاق بأن يكون رآه منشقًا فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير ففيه إشارة إلى أنها رؤية لا شبهة فيها وقد فعل نحو ذلك الكفرة، أخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: انتهى أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟ فهبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قل لأهل مكة أن يجتمعوا هذه الليلة يروا آية فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبريل عليه السلام فخرجوا ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفًا على الصفا ونصفًا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا ما هذا إلا سحر فأنزل الله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} فلو قال أحد هؤلاء رأيت القمر منشقًا ثلاث مرات على معنى تعدد الرؤية صح بلا غبار ولم يقتض تعدد الانشقاق فليخرج كلام ابن مسعود على هذا الطرز ليجمع بين الروايات، ثم هذا الحديث إن صح كان دليلًا لما أشار إليه البوصيري في قوله:من أن الشق كان ليلة أربع عشرة لأن البدر هو القمر ليلة أربع عشرة ويعلم من ذلك ما في قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرحه: ظاهر التعبير بالبدر دون القمر أن الشق كان ليلة أربع عشرة ولم أر له في ذلك سلفًا، ولعله أراد بالبدر مطلق القمر، ويؤيد كونه ليلة البدر ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سحر القمر فنزلت {اقتربت الساعة} إلى {مُّسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] فإن الكسوف وإن جاز عادة أن يكون ليلة الثالث عشر وليلة الخامس عشر إلا أن الأغلب كونه ليلة الرابع عشر ولا ضرورة إلى حمل الكسوف في هذا الخبر على الانشقاق إذ لا مانع كما في البداية والنهاية أن يكون قد حصل للقمر مع انشقاقه كسوف، نعم ذكر فيها أن سياق الخبر غريب.ثم إن القمر بعد انشقاقه لم تفارق قطعتاه السماء بل بقيتا فيها متباعدتين تباعدًا مّا لحظة ثم اتصلتا، وما يذكره بعض القصاص من أنه دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه فباطل لا أصل له كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير ولعنة الله تعالى على من وضعه.وما في خبر أبي نعيم الذي أخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس من أنه انشق فصار قمرين أحدهما على الصفا والآخر على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب لا يعوّل عليه، كيف وقد تضمن ذلك الخبر أن الانشقاق وقع لطلب أحبار اليهود وأن القائل هذا {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] هم، وهو مخالف لما نطقت به الأخبار الصحيحة الكثيرة كما لا يخفى على المتتبع، وقد شاع أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى القمر بسبابته الشريفة فانشق ولم أره في خبر صحيح والله تعالى أعلم.وأنكر الفلاسفة أصل الانشقاق بناءًا على زعمهم استحالة الخرق والالتئام على الأجرام العلوية ودليلهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت وقد خرق بأدنى نسمة من نسمات أفكار أهل الحق العلويين خرقًا لا يقبل الالتئام كما بين في موضعه، وقال بعض الملاحدة: لو وقع لنقل متواترًا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة لأنه أمر محسوس مشاهد والناس فيه شركاء والطباع حريصة على رواية الغريب ونقل ما لم يعهد، ولا أغرب من انشقاق هذا الجرم العظيم ولم يعهد أصلًا في الزمن القديم ولو كان له أصل الخلد أيضًا في كتب التسيير والتنجيم ولذكره أهل الأرصاد فقد كانت موجودة قبل البعثة بكثير وإطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره مما لا تجوزه العادة، وأيضًا لا يعقل سبب لخرق هذا الجرم العظيم وأيضًا خرقه يوجب صوتًا هائلًا أشد من أصوات الصواعق المهلكة بأضعاف مضاعفة لا يبعد هلاك أكثر أهل الأرض منه، وأيضًا متى خرق وصار قطعتين ذهبت منه قوة التجاذب كالجبل إذا انشق فيلزم بقاؤه منشقًا ولا أقل من أن يبقى كذلك سنين كثيرة؛ والجواب عن ذلك أنه وقع في الليل وزمان الغفلة وكان في زمان قليل ورؤية القمر في بلد لا تستلزم رؤيته في جميع البلاد ضرورة اختلاف المطالع فقد يكون القمر طالعًا على قوم غائبًا عن آخرين ومكسوفًا عند قوم غير مكسوف عند آخرين والاعتناء بأمر الأرصاد لم يكن بمثابته اليوم وغفلة أهلها لحظة غير مستبعد والانشقاق لا تختلف به منازله ولا يتغير به سيره غاية ما في الباب أن يحدث في القطعة الشرقية قوة سير لتلحق أختها الغربية، وأي مانع من أن يخلق الله تعالى فيها من السرعة نحو ما خلق الله سبحانه في ضوء الشمس فقد قال أهل الحكمة الجديدة: إن بين الأرض والشمس ثلثمائة ألف فرسخ وأربعون ألف فرسخ وأن ضوءها ليصل إلى الأرض في مدة ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية فيقطع الضوء في كل ثانية سبعين ألف فرسخ ولا يلزم أن يعلم سبب كل حادث بل كثير من الحوادث المتكررة المشاهدة لم يوقف على أسبابها كرؤية الكواكب قريبة مع بعدها المفرط فقد ذكروا أنهم لم يقفوا على سببه ويكفي في ذلك عدم وقوفهم على سبب الإبصار بالعين على الحقيقة ولو أخبرهم مخبر بفرض إن لم يكن لهم أبصار بخواص البصر مع كونه قطعة شحم صغيرة معروفة أحوالها عند أهل التشريح لأنكروا عليه غاية الإنكار وكذبوه غاية التكذيب ونسبوه إلى الجنون.ومن سلم تأثير النفوس إلى حدّ أن يصرع الشخص آخر بمجرد النظر إليه وتوجيه نفسه نحوه لم يستبعد أن يكون هناك سبب نحو ذلك، وقد صح في إصابة العين أن بعض الأعراب ممن لن عين صائبة يفلق سنام الناقة فلقتين، وربما تصور له من رمل فينظر إليه ويفلقه فينفلق سنامها مع عدم رؤيته لها نفسها وهذا كله من باب المماشاة وإلا فإرادة الله تعالى كافية في الانشقاق وكذا في كل المعجزات وخوارق العادات ولو كان لكل حادث سبب لزم التسلسل وقد قامت الأدلة على بطلانه، وكون الخرق يوجب صوتًا هائلًا ممنوع فيما نحن فيه ومثله ذهاب التجاذب والأجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتحاد جرم القمر والأرض فيها ويمكن أن يكون إحدى القطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها بقاسر مثلًا جذبته إليه إذا لم يخرج عن حدّ جذبها على ما زعموه ويلتزم في تلك القطعة عدم الخروج عن حدّ الجذب على أنا في غنى عن كل ذلك أيضًا بعد إثبات الإمكان لشمول قدرته عز وجل وأنه سبحانه فعال لما يريد.والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ولا يستطيع أن يأتي بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق، والاستبعاد في مثل هذه المقامات قريب من الجنون عند من له عقل سليم، وروي عن الحسن أنه قال: هذا الانشقاق بعد النفخة الثانية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وروي ذلك عن عطاء أيضًا، ويؤيد ما تقدم الذي عليه الأكثرون قراءة حذيفة {وقد انشق القمر} فإن الجملة عليها حالية فتقتضي المقارنة لاقتراب الساعة ووقوع الانشقاق قبل يوم القيامة، وكذا قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ} فإنه يقتضي أن الانشقاق آية رأوها وأعرضوا عنها، وزعم بعضهم أن انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه وهذا كما يسمى الصبح فلقًا عند انفلاق الظلمة عنه وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق كما في قوله النابغة:
|